كنتُ على موعدٍ معه قبل أَيام. اتصلتُ به أَسأَلُه عن موقع بيته. سأَلَني إِن كنتُ أَعرف المنطقة التي يَسْكن فيها. أَجبْتُ أَنْ نعم مررتُ بها غيرَ مرَّة. فبادرَني بهدوء: “الأَمرُ بسيط. أَنا في الشارع رقم 10 المبنى رقم 10 الطبقة الأُولى”. لم أَحتَجْ إِلى مَزيد. بعد وقت غير طويل كنت أَرِنُّ جرسَ بابه  ولَكان هذا الأَمرُ طبيعيًّا بديهيًّا عاديًّا لا يستحقُّ الذِكْر ولا التنويه، لو انَّه في أَيِّ مدينةٍ من أَيِّ بلدٍ منظَّمٍ فيه – كما يجب أَن يكُون – ترقيمٌ طبيعيٌّ بديهيٌّ عاديٌّ لكلِّ شارعٍ ولكل مبنًى في الشارع، تسهيلا للبريدِ ولأَيِّ خدمةٍ وأَيِّ زيارة . لن أَذهبَ بعيدًا فأَستعيرَ ما هناك أَو هنالك من المُدُن والبلدان، بل أَبقى هنا، عندنا، لأَسأَلَ كيف ولماذا لا تكون مرقَّمةً جميعُ المُدُن والبلدات والقرى والأَحياء، وتاليًا جميعُ البيوت والأَبنية والمَحالِّ والمُجمَّعات السكنيّة، كي يسهُلَ الأَمرُ على قاصديها؟

واستطرادًا: كيف ولماذا البلدياتُ – والجهاتُ الحكوميةُ المسؤُولةُ المعنيةُ بهذا الأَمر – لا تَعمَدُ إِلى المباشرة بهذا المَسْح الشامل في جميع الشوارع والأَحياء والطرقات وِسْعَ كلِّ لبنان، وهو أَمرٌ ضروريٌّ على الصعيدَين اللوجستي والديمغرافي؟

وإِلى متى سنظلُّ نَدُلُّ على بيوتنا في شوارعنا بهذه الطريقة الكاريكاتورية السخيفة مستعينين بأَول مفْرَقٍ بعد بيَّاع البطيخ و50 مترًا خلف الصيدلية وبعدها بيَّاع بوظة إِلى اليسار ثم دكانٌ عتيق إِلى اليمين يليه زاروبٌ في أَوَّله زيتونة يابسة إِلى اليمين وبعدها مفْرَق إِلى اليسار فيه سيارة مهجورة ثم رابعُ بناية إِلى اليمين أَمامها بُركة مياه فارغة، حتى يصلَ الزائر ومعه دوارٌ أَين منه دُوَار البحر ! لا أَعرف كيف تتغافل الدولة عن هذا الأَمر الحيَوي المُلِحّ. أَفهم أَنَّ الأَمر في لبنان ذو حساسياتٍ دقيقةٍ طائفيًّا وحزبيًّا وسياسيًّا لتسمية الشارع باسم هذا “المرحوم” أَو ذاك “الشهيد” أَو ذلك “المفضال” في الوطن أَو البلدة أَو المدينة، ما يَخلُق نزاعاتٍ جداليَّةً عن سبب التسمية باسمِه، ولماذا هو لا سواه من الصناديد العضاريط، أَو حتى باسم أَحد الأَعلام المرموقين الذين هم أَيضًا يَخضعون لمُحاصصاتٍ لم يَعُد مُمكنًا أَيُّ عملٍ في لبنان دون خُضُوعه للمحاصصات الطائفية والسياسية والمذهبية، فلا معيارَ ولا مقياسَ ولا ميزانَ إِلا بتوزيع الحصص في كلِّ مجال . أَفهَمُ هذا ويُخجِلُني. ولكنْ، حَيالَ هذا الواقع السخيف، لماذا في هذه الحالات لا يتمُّ اعتمادُ الأَرقامُ لتسمية الشوارعِ، والأَرقامُ – حتى إِشعارٍ آخرَ – لم يَلْحَقْها بَعْدُ ما

لَحِقَ عندنا بالأَلوان وما تعنيه من انتماءَاتٍ سياسية . فَتَنْتَفي عندها خلافاتٌ في تسمية الشارع باسم هذا أَو ذاك، ولا يعود مجالٌ أَن يتنطَّح اعتباطيًّا أَيٌّ كان بإِطلاق أَيِّ اسمٍ كان على شارعٍ ذي لَونٍ طائفيٍّ كان أَو دينيٍّ أَو سياسيّ!

يكفينا ما عندنا من أَسماء ومناسباتٍ وطنيةٍ ودينيةٍ كي لا نزيدَ عليها خلافاتٍ وطنيةً ودينيةً، ولْتَتَبنَّ الدولة اعتمادَ الأَرقام للشوارع والبيوت فَنَستَرِحْ من هدْر الوقْت على الاستفسار طويلا وتفصيلا مُمِلا عن بيتٍ لا يُـمكنُ الوصولُ إِليه إِلا بالمرور السعيد على خُطوط العرض والطول في جغرافيا الأَشجار اليابسة ومَـحالِّ الـخُضَر وبيَّاعي البوظة والبطيخ

وفي السياق ذاته، مررتُ قبل أَيام في كورنيش الـمزرعة (بيروت) بلافتةٍ مُروريةٍ لفتَتْني بغُمُوضها، هي الـمفترضُ أَنها موضوعةٌ لإِرشاد المواطنين إِلى وُجهة سيرهم. في اللافتة سَهمان: الأَوَّلُ يُشير إِلى الأَمام، حَدَّه اسم “سليم سَلام” بالعربية والأَجنبية، والآخَرُ يُشير إِلى اليسار، حَدَّهُ كلمة “كولا” بالعربية والأَجنبية.

ولأَنني أَعرف بيروت وأَحياءَ بيروت وشوارعَ بيروت، فهمتُ المقصود باللافتة.

ولكنْ… ماذا عَمَّن لا يعرف بيروت من اللبنانيين، أَو مَن لا يعرف لبنان من السيَّاح؟

اسم “سليم سَلام” وحدَه على اللافتة يدلُّ على اثنين: جسر سليم سلام ونَفَق سليم سلام.

واسم “كولا” وحدَه على اللافتة يعني مَحلَّةً فيها ساحةٌ وفيها شوارعُ وفيها زواريبُ وفيها تجمُّعٌ سكنيٌّ كثيف.

فما الذي يَعني، للزوار أَو السيَّاح، اسمٌ تجريديٌّ لا يُرشدهم إِلى مكانٍ واضح؟

وما الذي يَعني، للزوار أَو السيَّاح، اسمٌ تِجاريٌّ زالَ من زمان لأَن معمل ال”كوكاكولا” (سُمِّيَت باسمِهِ المحلَّةُ حين أُنشِئَ المعمل في منتصف الخمسينات) لم يَعُد موجودًا منذ أَكثرَ من ثلاثينَ سنة: هُدِمَ في أَواخر الثمانينات وقامَت مكانَه أَبنيةٌ عاليةٌ أَزالَت كُلَّ أَثرٍ لهُ  فكيف إِذًا تَعمَدُ وزارةُ الأَشغال العامة والنقل (في الشوارع الرئيسَة) وبلديةُ بيروت (في الشوارع الفرعية) إِلى وضْع لافتاتٍ وَفْق تسميةٍ شعبيةٍ محليةٍ ضيقةٍ لا وَفْقَ الإِثبات العقاري الرسميّ؟

وكيف اعتمادُ أَسماء تجريديةٍ مُجَرَّدةٍ لا تنفع أَصحابَها ولا المسترشدين بها، خصوصًا كاسْمِ شخصيةٍ بيروتيةٍ عريقةٍ كـ”أَبو علي سليم سَلام” والدِ الزعيم اللبناني صائب سَلام وجَدِّ الرئيس تَمَّام سَلام؟

وما نفعُ لافتةٍ لا يُشير رقمٌ واضحٌ فيها إِلى المسافة التي تفصل بين اللافتة والمكان؟

فَهِمْنا أَنَّ في بيروت (خصوصًا في بيروت وعُمومًا في المناطق اللبنانية) شوارعَ لا نعرف معظمَ مَن سُـمِّيَت بأَسمائهم: مَن هُم، ماذا صَنَعوا، ماذا اجترَحوا، ماذا قَدَّموا لِلُبنان حتى استحقُّوا أَن تُسمَّى بأَسمائِهم تلك الشوارع.

فَهِمْنا أَنَّ اللافتات في المدينة ليسَت دائمًا مفيدةً بِإِشاراتها وإِرشاداتها الزائِرَ أَو السائح . لكننا ما فَهِمْنا ولا نَفهَم كيف يَقرأُ اللبنانيُّ أَو الزائِرُ أَو السائحُ اسْمًا مُجَرَّدًا من مدلوله (ساحةً، جسْرًا، مَحلَّةً، …) كأَنه مكتوبٌ فقط لأَهل المَحلَّة أَو الشارع، ولا يكونُ مفهومًا للزُوَّار والسُيَّاح . هذا طبعًا كي لا أَتوسَّعَ أَكثرَ فأَستعيدَ التَسَاؤُلَ الدائم عن سبب التجاهُل أَو التقصير أَو العجْز عن ترقيم الشوارع والأَبنية في كلّ لبنان، كي لا نَظَلَّ ندُلُّ الناس إِلى بيوتنا بعناوينَ مُضْحكةٍ مُعَقَّدةٍ تَتراوحُ بين بيَّاع البطيخ يَمينًا ومفرَق الصيدلية يسارًا ودكَّان أَبو أَسعد جنوبًا وزاروب إِلى اليسار ثم زاروبَين إِلى اليمين ثم البناية الرابعة قبل الأَخيرة، حتى يَدُوخَ الزائرُ ويضيعَ ويَلعَنَ الساعة التي يَستدِلُّ فيها على بيتٍ لا رقمَ له ولا اسمَ شارع، في حيٍّ قابعٍ بين بيَّاع بطيخ ودكَّان أَبو أَسعد وزواريب زواريب زواريب يَضيع فيها حتى الواوي وهو يتسلَّل خلسةً إِلى قُنّ الدجاج.